كانت مهنتي الأمن ومراقبة السير ومساعدة المحتاجين . .
كان عملي متجددا وعشت مرتاحا . .
أؤدي عملي بجد وإخلاص . . ولكني عشت مرحلة متلاطمة الأمواج . .
تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه لكثرة فراغي وقلة معارفي ..
ثم بدأت أشعر بالملل . . ولم أجد من يعينني على ديني . . بل العكس هو الصحيح . .
مللت من المشاهد المتكررة في حياتي العملية للحوادث والمصابين . .
ولكن كان يوم مميز. .في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق . .
نتجاذب أطراف الحديث .فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي . .أدرنا أبصارنا . .
فإذا بها سيارة مرتطمة بسيارة أخرى كانت قادمة من الاتجاه، المقابل . .
هبينا مسرعين لمكان الحادث لإنقاذ المصابين . .حادث لا يكاد يوصف . .
شخصان في السيارة في حالة خطيرة. . أخرجناهما من السيارة . . ووضعناهما ممددين . .
أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية . . وجدناه قد فارق الحياة . .
عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار..هب زميلي يلقنهما الشهادة. .
قولا . لا إله إلا الله . . لا إله إلا الله . .لكن لسانيهما ارتفعا بالغناء . .
أرهبني الموقف . . وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت . .
أخذ يعيد عليهما الشهادة . .وقفت منصتا . . لم أحرك ساكنا . . شاخص العينين أنظر. .
لم أر في حياتي موقفا كهذا. . بل قل لم أر الموت من قبل وبهذه الصورة . .
أخذ زميلي يردد عليهما كلمة الشهادة . . وهما مستمران في الغناء. .لا فائدة. .
بدأ صوت الغناء يخف شيئا فشيئا. . سكت الأول وتبعه الثاني . .لا حراك . .فارقا الدنيا .
حملناهما إلى السيارة. . وزميلي مطرق لا ينبس ببنت شفه . . سرنا مسافة قطعها الصمت المطبق .
مزق هذا السكون صوت زميلي . . فذكر لي حال الموت وسوء الخاتمة . .
إن الإنسان يختم له إما بخير أو بشر. . وهذا الختام دلالة لما كان يعمله الإنسان في الدنيا غالبا .
وذكر لي القصص الكثيرة التي رويت في الكتب الإسلامية وكيف يختم للمرء على ما كان عليه بحسب ظاهره وباطنه . .
قطعنا الطريق إلى المستشفى في الحديث عن الموت والأموات .. وتكتمل الصورة عندما أتذكر أننا نحمل أمواتا بجوارنا . .
خفت من الموت واتعظت من الحادثة. . وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة..
ولكن مع مرور الأيام نسيت هذا الموقف بالتدريج . .
بدأت أعود إلى ما كنت عليه . . وكأني لم أشاهد الرجلين وما كان منهما. .
ولكن للحقيقة أصبحت لا أحب الأغاني ولا أتلهف عليها كسابق عهدي . .
ولعل ذلك مرتبط بسماعي لغناء الرجلين حال احتضارهما . .
ومن عجائب الأيام . .بعد مدة تزيد على ستة أشهر. . حصل حادث عجيب . .
شخص يسير بسيارته سيرا عاديا . . وتعطلت سيارته . . في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة..
ترجل من سيارته . . لإصلاح العطل في أحد العجلات . .
وعندما وقف خلف سيارته. . لكي ينزل العجلة السليمة. .
جاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف . . سقط مصابا إصابات بالغة..
حضرت أنا وزميل آخر غير الأول . . وحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله . .
شاب في مقتبل العمر. . متدين يبدو ذلك من مظهره . .
عندما حملناه سمعناه يهمهم . . ولعجلتنا في سرعة حمله لم نميز ما يقول ..
ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا . .سمعنا صوتا مميزا. ...
!نه يقرأ القرآن . . وبصوت ندي . . سبحان الله لا تقول هذا مصاب . .
الدم قد غطى ثيابه . . وتكسرت عظامه . . بل هو على ما يبدو على مشارف الموت . .
استمر يقرأ بصوت جميل .. يرتل القرآن . . لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة . .
كنت أحدث نفسي وأقول سألقنه الشهادة مثل ما فعل زميلي الأول . .
خاصة وأن لي سابق خبرة كما أدعي . . أنصتُّ أنا وزميلي لسماع ذلك الصوت الرخيم . .
أحسست أن رعشة سرت في جسدي. . وبين أضلعي . .
فجأة . . سكت ذلك الصوت . . التفت إلى الخلف . . فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد. . ثم انحنى رأسه . .
قفزت إلى الخلف . .لمست يده ..أنفاسه .لا شيء ..فارق الحياة . .
نظرت إليه طويلا. . سقطت دمعة من عيني . . أخفيتها عن زميلي . .
التفتُّ إليه وأخبرته أن الرجل قد مات . . انطلق زميلي في البكاء . .
أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف . . أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثرا ...
وصلنا المستشفى . .أخبرنا كل من قابلنا عن قصة الرجل . . الكثيرون تأثروا من حادثة موته وذرفت دموعهم . .
أحدهم بعدما سمع قصة الرجل ذهب وقبل جبينه . .
الجميع أصروا على عدم الذهاب حتى يعرفوا متى يصلى عليه ليتمكنوامن الصلاة عليه .
في الغد غص المسجد بالمصلين . . صليت عليه مع جموع المسلمين الكثيرة . .
وبعد أن انتهينا من الصلاة حملناه إلى المقبرة . . أدخلناه في تلك الحفرة الضيقة . .
وجهوا وجهه للقبلة . . باسم الله وعلى ملة رسول الله . .بدأنا نهيل عليه التراب .
اسألوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل . .استقبل أول أيام الآخرة . .
وكأنني استقبلت أول أيام الدنيا . .
تبت مما عملت عسى الله أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير..
وأن يجعل قبري وقبر كل مسلم روضة من رياض الجنة. .